ساهمت برامج تدريب الأبوة والأمومة (القائمة على تحسين التفاعل الاجتماعي الإيجابي واستعادة الروابط العاطفية لأفراد الأسرة) في منع خلل التنظيم المحوري للغدة النخامية والكظرية بعد التعرض لصعوبات الطفولة المبكرة. للتوضيح، محور الغدة النخامية الكظرية (HPA) :هو الجهاز العصبي الصماوي في الدماغ المسؤول عن تنظيم الاستجابة للضغوطات. حيث يتم تفعيل هذا المحور عند التعرض للضغوطات. تكرار التعرض للضغوطات يؤدي إلى مجموعة من الاضطرابات العاطفية. الخبر الجيد هو أن الآباء والأمهات يمكنهم التدريب لتحسين سلوكهم مع أطفالهم. حيث أن معاملة الأباء والأمهات لأطفالهم بتفهم ودعم وحنية، يمكن أن يقلل من تأثير الآثار السلبية للتجارب السلبية في مرحلة الطفولة المبكرة. هذه التدخلات تساعد الوالدين على تغيير سلوكهم وبالتالي يمكن أن تعيد نمو دماغ الطفل ونموه النفسي إلى الوضع الصحي.( فيشر وسكورون ،2017).
يمثل التحدي الأكبر في تقييم وإنشاء المزيد من البرامج المناسبة لاحتياجات الأباء والأمهات الحاليين والجدد بحيث تساعد الآباء أولياء الأمور على اتخاذ خيارات أكثر وعيًا وإيجابية وتكون البرامج بلغة واضحة سهلة مفهومة وذات تكلفة مناسبة في متناول الجميع. ييقترح فيشر وسكورون (2017) أن يُراعى في تصميم التدخلات الجديدة الاقتران بمنهجيات تساعد في تقييم فعاليتها بحيث تكون أكثر مرونة من البرامج الخاصة بالتجارب السريرية العشوائية التقليدية. المقصود هنا هو تصاميم التقييم التكيفي والذي يسمح بإجراء تعديلات على التجربة و/أو الإجراءات الإحصائية للتجربة بعد البدء دون المساس بصلاحيتها ونزاهتها. هذا النوع من التقييم موجود منذ عقود في الطب والهندسة، ولكن تم مؤخرا استخدامه في مجال أبحاث التدخل الأبوي، وتعتبر نقلة نوعية في هذا المجال.
البرامج المختصة يمكن أن تساعد ملايين الأباء والأمهات الحاليين والجدد الذين قد مروا هم بتجارب قاسية وسلبية أثناء طفولتهم. وبسبب نقص المعرفة والوعي وبرامج التدخل لم تسنح لهم الفرصة للحصول على نمو عقلي ونفسي سليم.
حيث أن الغرض من التدريب مساعدتهم للعودة للوضع التكيفي الصحي. تشير الدراسات المختصة بتجارب الطفولة السلبية ACEs) إلى أن تجارب الطفولة المبكرة والمجهدة يمكن أن تؤثر على النمو الطبيعي للدماغ وأن "الشباب الذين تعرضوا للإجهاد في مرحلة الطفولة قد تأثر لديهم النمو المعرفي والعاطفي والاجتماعي (خلل تنظيم محور HPA) ). وقد تظهر أيضًا تغييرات في تنظيم الغدد الصم العصبية (توازن الجهاز العصبي اللاإرادي، والتعبير الجيني، والنشاط المناعي، وصحة القلب والأوعية الدموية، والمرونة الأيضية) حيث أنهم معرضون بشكل متزايد لخطر الإصابة بأمراض مختلفة واضطرابات سلوكية. (فيليتي وأخرون، 1998)،
ويبدو أن المشكلة الأكبر هي أن الكثير من هؤلاء الشباب لا يدركون أنهم بحاجة إلى التدريب والإعداد ليصبحوا آباءً وأمهات وهم غير واعيين بتأثير الصعوبات التي مروا بها في طفولتهم على علاقاتهم الحميمة، والتواصل الأسري، وكيف يمكن أن تؤثر على مسار حياة أطفالهم بأكمله. في كثير من الحالات يظهرون مشاعر متغيرة ويتعاملون بطريقة سلبية مع أطفالهم ويعتبرون أن ما يقومون به أمرًا طبيعيًا (رويل ونيل بارنيت، 2022).
إن توسيع إمكانات الفرد ك أم و أب يتطلب الوعي بأن تجارب الطفولة السلبية يمكن أن تظهر نفسها في المستقبل مما يسبب اضطرابات في الشخصية ويضر بالصحة الجسدية والعقلية والعاطفية. ما تزال هذه المشكلة صامتة ولا يتم الحديث عنها حتى الآن مما يؤدي إلى أن يتم الاستمرار في نقل الخصائص السلبية للأسرة إلى الجيل التالي والأجيال التالية. وفقًا لتحليل رويل ونيل بارنيت (2022) الضخم حول علاقة تجارب الطفولة السلبية والأبوة، والأمراض النفسية للأطفال.
في ظل غياب برامج الأبوة والأمومة المتخصصة التي تعزز توسيع الوعي، ينتهي الأمر بهؤلاء الشباب إلى تكرار دورة السلوكيات الأبوية وفعل ما كان يفعله والديهم حتى لو لم يرغبوا في ذلك. يدرك الكثير من الأفراد أنهم لا يريدون تكرار الدورة وكثيراً ما يعلنون: "لا أريد أن أكرر ما فعله والداي بي". ولكن غير واضح ما الذي لا يرغب أو يرغب به بالضبط "ما هو نوع الأب أو الأم الذي أريد أن أكون لأطفالي؟"، والذي يظهر في التعامل مع الأطفال بدون وعي. صحيح أننا مسؤولين عن تصرفاتنا وأفعالنا لكننا بشر وقد نشعر أحيانًا بالإرهاق، وأننا غير قادرين على أن نكون واعين تمامًا في دوامة الأحداث التي تدور حولنا.
على الرغم من أن الدراسات أشارت على مدى عقود إلى أن "تطور السلوكيات الإشكالية لدى الأطفال، أثناء التنشئة الاجتماعية مع الوالدين في سياق الأسرة، يرتبط بسلسلة من المشاكل طوال مسار حياة هؤلاء الأطفال" (رويل ونيل- بارنيت، 2022)، لا يزال العديد من الآباء لا يمتلكون الوعي الكافي أو الموارد العقلية، للتفكير في أن التفاعل الأسري يجب أن يقوم على المشاركة المستمرة والصحية، وكيفية جعل الحصيلة السلوكية للبالغين قدوة جيدة في البيئة المنزلية.
مما لا شك فيه أن الأطفال يلاحظون الطريقة التي يتواصل بها آباؤهم مع بعضهم البعض، وكيف يعاملون بعضهم البعض ( مثل الخلافات أو عدم الحوار)، والطريقة التي يعاملهم والديهم بها (مثل عدم وجود دعم عاطفي مستمر). غالبًا ما يقاوم الأطفال هذه السلوكيات التي يقوم بها ويستمرون في ذلك ويستمر الأباء في نفس السلوكيات. ذلك يؤدي إلى زيادة التفاعلات السلوكيات بين أفراد الأسرة ولكن ليس بشكل صحي، مما يسبب معاناة الأطفال (وكذلك الوالدين)، حيث أن هناك الكثير من مشاعر الحزن والألم خلف هذه المشاكل السلوكية. وقد تؤثر هذه المشاعر بشكل كبير على احترام الشخص لذاته، مما يؤدي إلى سلسلة من المشاكل الأخرى، وتستمر الدورة...
المراجع
Felitti, V. J., Anda, R. F., Nordenberg, D., Williamson, D. F., Spitz, A. M., Edwards, V., Koss, M. P., & Marks, J. S. (1998). Relationship of childhood abuse and household dysfunction to many of the leading causes of death in adults: The Adverse Childhood Experiences (ACE) Study. American Journal of Preventive Medicine, 14(4), 245–258.
Fisher, P. A., & Skowron, E. A. (2017). Social-learning parenting intervention research in the era of translational neuroscience. Current Opinion in Psychology, 15, 168–173.
Juffer, F., Bakermans-Kranenburg, M. J., & van IJzendoorn, M. H. (2017). Pairing attachment theory and social learning theory in video-feedback intervention to promote positive parenting. Current opinion in psychology, 15, 189-194.
Rowell, T., Neal-Barnett, A. (2022). A Systematic Review of the Effect of Parental Adverse Childhood Experiences on Parenting and Child Psychopathology. Journal of Childhood and Adololescent Trauma 15, 167–180.
Zayia, D., Parris, L., McDaniel, B., Braswell, G., & Zimmerman, C. (2021). Social learning in the digital age: Associations between technoference, mother-child attachment, and child social skills. Journal of school psychology, 87, 64-81.